عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "عَبْدٌ
خَيّرَهُ اللّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ.
فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ" فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ. وَبَكَى. فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ
بِآبَائِنَا وَأُمّهَاتِنَا. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم
هُوَ الْمُخَيّرُ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أَمَنّ النّاسِ عَلَيّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ
أَبُو بَكْرٍ. وَلَوْ كُنْتُ مُتّخِذاً خَلِيلاً لاَتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ
خَلِيلاً. وَلَكِنْ أُخُوّةُ الإِسْلاَمِ. لاَ يَبْقَيَنّ فِي الْمَسْجِدِ
خَوْخَةٌ إِلاّ خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ". متفق عليه.
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم من
انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة: إذا جاء نصر الله والفتح. وقيل لابن عباس
رضي الله عنهما: هل كان يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم متى يموت ؟ قال : نعم ،
قيل : ومن أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : إذا جاء نصر
الله والفتح ، يعني فتح مكة، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ذلك علامة
موته ، وقد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام ، فإن المراد من هذه السورة: أنك
يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجاً
فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار ، فإنه قد حصل منك مقصود ما
أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ ، وما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة
إلينا. وروي في حديث: إنه تعبد حتى صار كالشنّ البالي ،وكان يعرض القرآن كل عام
على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام
فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ، وأكثر من الذكر والاستغفار ، قالت أم سلمة : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا
قال: سبحان الله وبحمده . فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك، وتلا هذه السورة . وإذا
كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف يكون حال المذنب المسيء
المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير. ومن لم ينذره باقتراب أجله وَحْيٌ أنذره
الشيب وسلب أقرانه بالموت. وما زال صلى الله عليه وسلم يعرِّض باقتراب أجله في آخر
عمره ، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم
بعد عامي هذا ، وطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع، ثم إنه لما بدأ به مرض
الموت خير بين لقاء الله وبين زهرة الدنيا والبقاء فيها ما شاء الله ، فاختار لقاء
الله وخطب الناس وأشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح. وكان ابتداء مرضه في أواخر
شهر صفر ، وكان مدة مرضه ثلاثة عشر يوماً في المشهور ، وقيل : أربعة عشر يوماً ،
وقيل : اثنا عشر يوماً. وكانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم
عليه ههنا في ابتداء مرضه. ولما عَرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر
باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم
المقصود غير صاحبه أبي بكر، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم ،
فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. فسكَّن
الرسول صلى الله عليه وسلم جَزَعَه وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر ليعلم
الناس كلهم فضله ولا يقع عليه اختلاف في خلافته. فقال: إن من أمن الناس علي في
صحبته وماله أبو بكر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذاً من أهل
الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن إخوة الإسلام . لما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم خليل الله لم يصلح له أن يخالل مخلوقاً فإن الخليل من جرت محبة
خليله منه مجرى الروح ، ولا يصلح هذا لبشر. ثم قال صلى الله عليه وسلم : لا يبقين
خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر. وفي هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو
الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من
مصالح المسلمين المصلين في المسجد . ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحاً أن يصلي
بالناس أبو بكر فروجع في ذلك فغضب وقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فولاه إمامة
الصلاة دون غيره وأبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة وسد استطراق غيره ، وفي
ذلك إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره ، ولهذا قالت الصحابة عند بيعة
أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا، فكان
نعم الصاحب ونعم الخليفة.